أتاح اتفاق جنيف الذي وضعته مجموعة العمل الدولية حول سوريا، السبت، فرصة مزدوجة أمام المجتمع الدولي والرئيس بشّار الأسد من أجل دفع الأزمة السورية نحو حلّ محتمل. وكشأن اتفاقات دولية مماثلة يشوب أفرقاءها تناقض المواقف فينعكس في مضمونها الملتبس، عبّر اتفاق جنيف قبل أن يجفّ حبر الإعلان عنه عن تعارض في تفسير بنوده، وأخصّها آلية المرحلة الانتقالية في سوريا بالدعوة إلى حكومة تضم النظام والمعارضة معاً.
لم يكرّس التفسير المتباين الخلافات التي اتسمت بها مناقشات مجموعة العمل الدولية فحسب، بل أكد استمراره في المرحلة التالية للاتفاق، عند وضعه موضع التنفيذ، وصلبه الفعلي موقع الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية: يُرافقها أم يخرج منها؟ كذلك الأمر بالنسبة إلى مسار المرحلة الانتقالية: كيف يخرج الأسد؟ ثم قبل ذلك وذاك: هل سيخرج فعلاً؟
إلى الآن، اثنان على الأقل سوى النظام ورئيسه يقولان ما يقوله الأسد. كلاهما فاعل. أحدهما هو موسكو حاملة عصا الفيتو في مجلس الأمن. والآخر هو أنان صاحب المبادرة والدور والخطة واقتراح المرحلة الانتقالية تطبيقاً للبنود الستة. يقولان، خلافاً للأميركيين والأوروبيين والعرب المناوئين للنظام، إن رحيل الأسد شأن سوري داخلي. كذلك يعبّر عنه اتفاق جنيف في سرده المرحلة الانتقالية.
مع ذلك، في خضم الترحيب بما أفضى إليه اجتماع مجموعة العمل الدولية، لم يكن مفارقة عابرة التصعيد العسكري الذي سبق اجتماع السبت وتلاه، في محاولة للتأثير على نتائجه.
ليست المرة الأولى أيضاً التي يُرخي فيها هذا التصعيد بظلاله على تحرّك دولي أو إقليمي حيال الأزمة السورية. في مطلع شباط، استبق التصعيد العسكري في ريف دمشق اجتماع مجلس الأمن وإخفاقه في التصويت على مشروع قرار ضد نظام الأسد، قبل أن يتوجّه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى دمشق ويقدّم جرعة دعم قوية لحكم الأسد، أياماً قليلة قبل طلب الجامعة العربية تدخّل مجلس الأمن. ثم كان اقتحام حيّ بابا عمرو وتصفية المعارضة المسلحة فيه وانتقال الحسم الأمني إلى مدينة إدلب، مطلع آذار، تمهيداً لاجتماع لافروف باللجنة الوزارية العربية في القاهرة، وقد تبنّت خطته ببنودها الخمسة.
في كل مرة بدت الأزمة السورية عند مفترق ديبلوماسي كبير يختلط فيه التدخّل الخارجي بالتدهور الداخلي، يعكس العمل العسكري توازن القوى بغية الإخلال به. على نحو كهذا، رافق ارتفاع وتيرة التصعيد العسكري والأمني اجتماع مجموعة العمل الدولية حول سوريا.
واستناداً إلى معلومات مصدرها مسؤولون سوريون، واكب النظام التحرّك الدولي الأخير، وهو مطمئن إلى الناظم الروسي لأعمال مجموعة العمل، عبر تعزيز هجماته على معارضيه المسلحين انطلاقاً من اعتقاد تمسّك به منذ الأشهر الأولى للاضطرابات في سوريا، وخصوصاً بعد انتقال النزاع بينه وبين المعارضة من التظاهرات إلى الاشتباك المسلح إلى ولوج حرب أهلية، وهو أن مَن يُمسك بالأرض يكون الأقدر على التفاوض.
اتخذ هذا الهدف مزيداً من العوامل المساعدة بعد انكفاء المراقبين الدوليين وتوقفهم عن متابعة مهمتهم في 16 حزيران، على أثر تصاعد عمليات العنف عليهم من طرفي النزاع. مكّن ذلك النظام من السيطرة على دوما في ريف دمشق، وكان موقعاً محصّناً للمسلحين، وإحدى أبرز نقاط ضعف نظام الأسد. ثم كانت خطوة ثانية بدأت قبل يومين من انعقاد اجتماع جنيف، هي بدء مفاوضات غير معلنة بين النظام ووجهاء المدن الرئيسية في ريف حمص من أجل إنهاء القتال.
أولى جولات التفاوض حصلت الخميس المنصرم بين وفد مثّل هؤلاء وضم أئمّة المساجد من أجل وقف قصف المدن تلك وتدميرها وإعلان عودتها إلى كنف النظام الذي مثله في المفاوضات مسؤول أمني رفيع. إلا أن الأخير اشترط تزامن بدء التفاوض مع إعلان أئمة المساجد، من منابرهم، موقفاً علنياً يخاطبون به الرأي العام الحمصي في المدينة وريفها بضرورة وقف عمليات العنف والقتل والتدمير، في منطقة كانت قد شهدت في الأشهر الأخيرة تزايداً غير مسبوق في التصفيات المذهبية بين السنّة والعلويين. اليوم التالي عكست خطب الجمعة هذا التحوّل. ساهم في دفع المفاوضات نحو الأمام إقرار مجلس الشعب في جلسة عقدها الأسبوع الماضي قانوناً عدّ إرهابياً مَن يؤوي إرهابيين وأخضعه لأصول الملاحقة والمحاكمة والعقوبات نفسها. وهو بذلك أصرّ على تسليم المسلحين أنفسهم.
وتشير المعلومات نفسها إلى الآتي:
1 ــ لا يجهل النظام، ولا يكتم خصوصاً، أن عمر الأزمة السياسية والدموية في آن طويل، وقد يستغرق أكثر ممّا يُعتقد. لكن المسؤولين الأمنيين يُبرزون انطباعات واثقة من اجتياز النظام الامتحان الأقسى، وهو البقاء، ومن ثمّ ملاحقة أعدائه ومحاسبتهم.
2 ــ يقول المسؤولون الأمنيون إنهم تعلّموا الكثير من الأخطاء التي رافقت تعاطي الجيش والاستخبارات العسكرية مع أحداث الأشهر المنصرمة من الأزمة، فوضعت النظام والجيش وجهاً لوجه مع المراقبين الدوليين. يقولون أيضاً إنهم باتوا أكثر إلماماً بمناورات أعدائهم في المعارضة المسلحة التي اكتسبت من تجارب استخبارات عربية وغربية تتعاون معهم وتمدّهم بالتسلّح ومصادر التمويل، خبرات جديدة في المواجهة العسكرية.
أدرك الجيش أن موافقته من حين إلى آخر على هدنة، بناءً على طلب المراقبين الدوليين لتسهيل دخولهم مدناً وقرى واستطلاع أوضاعها، كانت تفضي إلى مزيد من تسليح المعارضة وتعديل خطط انتشارها وتحرّكها بين المدن والبلدات، مستفيدة من كمّ هائل من المعلومات كانت تصل إليها، ومن تسيّب الحدود وخصوصاً مع لبنان، تمهيداً للذهاب إلى جولة جديدة. بعض أخطائه أن المعارضة المسلحة تصرّفت بشطارة أتاحت لها، بعد كل هجوم على آلية للجيش أو إعطابها، إبلاغ فريق المراقبين الدوليين بردّ فعل الجيش. يُدوّن المراقبون ردّ الفعل، لا الفعل نفسه.
3 ــ بعد استعادته أجزاءً مهمة من ريف دمشق وسيطرته شبه الكاملة عليه، واعتقاده أن المفاوضات ستعيد معظم ريف حمص، وأخصّه مدنه الرئيسية إلى الكنف، وجزمه بأن المدينة تقع تحت سيطرته، لا يخفي النظام حرية الحركة التي لا يزال المعارضون المسلحون يمتلكونها، وتمكّنهم من تنفيذ هجمات على مقارّ الجيش وقطعه في الليل، ويسيطرون في معظم الأحيان على قرى صغيرة في الأرياف تجعل الجيش يهمل إرسال قوات كبيرة إلى هناك لمواجهتها، ومن ثم تشتيت هذه القوات في أماكن لا تشكلّ خطراً على النظام.
4 ــ لم يعد في وسع المعارضة المسلحة المضي في أحد ثلاثة رهانات تداولتها طويلاً في اجتماعاتها المتلاحقة منذ الأشهر الأولى للأزمة، ومعظمها عقد في إسطنبول، وتوقعت منها حينذاك إطاحة الأسد: انقلاب الجيش عليه على غرار الحالتين الليبية واليمنية، أو وقوفه على الحياد على غرار الحالة المصرية، أو انقلاب محيط الأسد عليه.
لم ينجح أي من خيارات أولى أشهر الأزمة، قبل أن تقرّر المعارضة الذهاب إلى نزاع مسلح أملت في أن يؤدي تفاقمه إلى أحد احتمالين: حياد الجيش، أو تعرّضه لشرخ وانقسام كبير يُحتّم انهيار النظام. أخفق هذا التوقع أيضاً.